أدّت الحروب الطويلة التي مرّ بها العالم، وتَفاقُم خطاب الكراهية الذي طال أجزاءً مختلفة من انتماءات هويّة الفرد (ومنها الانتماء الدينيّ)، إلى ازدياد التوتّر في العلاقات بين الأديان، الذي تَطوَّر في بعض الأحيان إلى درجة “الرُّهاب” والقطيعة والعنف المتبادل. وهذا ما عرَفه التّاريخ ويَعْرفه حتى الآن.
ففي كل دينٍ تفسير يقصي الدّيانات الأخرى، رغم وجود تفاسير تُبرز المساحة التي تُقرّ بكرامة الإنسان وحريّته، وتدعو إلى احترام هذه الكرامة وهذه الحريّة وصونهما، وتُعلن أن لا إكراه في الدّين، وتجعل الإنسان مسؤولًا عن اختياراته وخياراته في الحياة مُعْتقَدًا وفكرًا وسلوكًا.
إذًا، كيف استجابت المؤسسات الدينية المختلفة لهذه التحولات وما هي الوثائق التي أصدرتها لإقرار حقوق الإنسان والعمل على صونها؟
ما قيم الحياة العامة المشتركة التي تنصّ عليها هذه الإعلانات والمبادرات والوثائق؟
الكرامة الإنسانية
الحرية
المساواة
التضامن
اللاهوت أو الفكر الديني حول الأديان الأخرى
طوَّر اللاهوتيون/المفكرون الدينيون عدّة إجابات عن السؤال: “هل هناك مساحة في ضِمن كل دين لِتَقبُّل الأديان الأخرى، على اعتبار أنها حقيقيّة وسُبل خلاص؟”
تندرج هذه الإجابات تحت أربعة مواقف دينية مِن التنوع، يمكن أن نجدها في كلّ دين، وهي
إذًا، ما العلاقة بين لاهوت التنوّع وحرية الدين والمعتقد؟
أصدرت مرجعياتٌ دينية (مسيحية وإسلامية بشكل خاص) نصوصًا، جرى ذكر بعضها آنفًا، تناولَت فيها حرية الدين والمعتقد، واقتربت بعض الشيء من النصوص الدولية، لا سيما فيما يتعلّق بقدسية الضمير الإنساني، وبالكرامة الإنسانية المتساوية عند كل فرد -إلى أيٍّ كان انتماؤه أو عدم انتمائه-. أيضًا أثارت النصوصُ الحقَّ في إقامة الشعائر والتعليم والمحافَظة على التراث الديني.
إلَّا أن تأثير هذه النصوص يبقى محدودًا بعض الشيء، إن كان من جهة المحتوى أو التطبيق، للأسباب الآتية:
عندما قامت هذه النصوصُ بتسمية جماعاتٍ دينية، لم تعترف بها جميعِها (مثل بيان الأزهر 2012 الذي اعترف بأديان ثلاثة فقط: اليهودية والمسيحية والإسلام). ثم إنها لم تحدّد أي شيء مرتبط بغير المؤمنين أو اللاأدريِّين.
إذًا، يمكن القول: إنّ الأديان تلتقي مع حقوق الإنسان على أساس قيم مشتركة، وبخاصةٍ قيم الحياة العامة. وقد طوَّرَت مؤسسةُ أديان مفهومَ المسؤولية الاجتماعية الدينية، بالشَّراكة مع مرجِعيات دينية متنوعة، لإدراكها أهميّة الدور المنُوط بالمؤسسات والمرجعيات الدينية في الشأن العام، ولِمَا في هذه التعاليم الدينيّة من حوافز للأفراد على الانخراط في خدمة القضايا العامّة، ولإمكانيّة إيصال الرسالة إلى شرائح واسعة من الناس عبْر المِنصّات الدينية.
بذلك، يَنقل مفهومُ المسؤوليّة الاجتماعيّة الدينيّة الخبرةَ الإيمانيّة، من الحيّز الخاص داخل الجماعة المؤمنة إلى الحيّز العامِّ، حيث يُترجِم فيه المؤمنُون والمؤمنات قيَمهم التزامًا صادقًا في خدمة الناس، وتحقيقًا للعدل والسلام. وفيه يلتقي الناس -على اختلاف خلفيّاتهم الدينيّة أو المدنيّة- على كرامة كلِّ إنسان، وعلى خير المجتمع بدون تفرقة أو تمييز.
يمكنكم/نّ الاطلاع بشكلٍ أعمق على تعريف المسؤولية الاجتماعية الدينية عبر تحميل الدليل الإرشادي
هل التضامن العابر للانتماءات مهمّ لتعزيز حرية الدين والمعتقد؟
في المجتمعات المتعددة يُعَدُّ التضامن العابر للانتماءات أساسيًّا، لتوطيد العلاقات بين مجموعات المجتمع المتعدِّد، ولبلوغ أفضل نمط من أنماط العيش معًا.
وفي سياق التضامن بين الجماعات الدينية المختلفة، قدَّم بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالتهم الرَّاعَوِيّة الثّالثة “معًا أمام الله” عام 1994، مفهومَ “التضامن الروحي”، وفسّروه على اعتبار أنه يعني: أن يَحمل كلُّ مكوِّن همومَ أخيه وآلامه وآماله وطموحاته. وهو مسعًى في سبيل الذات وفي سبيل الآخر، بحيث “يكون إحساسنا وشعورنا بإخوتنا الآخرين المختلفين عنّا… كإحساسنا وشعورنا بأنفسنا”.
في هذا السياق، صدر في آذار/مارس 2017 عن المؤتمر الدولي “الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل، الذي نظَّمه الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين بحضور 200 شخصية من 60 دولة: “إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك“، الذي خصّ موضوع التضامن بالقول: “إننا اليوم مَدعُوُّون جميعًا بحكم الانتماء الواحد والمصير الواحد إلى التضامن والتعاون لحماية وجودنا الإنساني والاجتماعي والديني والسياسي. فالمظالم مشتركة، والمصالح مشتركة، وهي تقتضي عملًا مشتركًا نقرُّ جميعًا بضرورته، ولا بد من تحول هذا الشعور إلى ترجمة عملية في شتى مجالات الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية والوطنية”.